الكفر بعد الإسلام

الحمد لله العزيزِ الجبّارِ والصلاةُ والسلامُ على سيدِنا محمدٍ المختار وعلى آلهِ وأصحابِه الأخيارِ وبعدُ كلُّ مسلمٍ مأمورٌ بأن يحفَظَ إسلامَهُ مِنَ الردة. والردة هى الكفر بعد الإسلام، وهى تَقطَعُ الإسلامَ وتُبطِلُهُ، أى بمجرد حصول الردةِ لا يبقى الشخصُ مسلِمًا بل يصيرُ فورًا كافرًا ولو كان أبواه مسلمَيْنِ. وقد كَثُرَ فى هذا الزمانِ التساهلُ فى الكلام حتى إنه يخرج من بعضهم ألفاظٌ تُخرِجُهم عن الإسلام ولا يرَون ذلك حرامًا ولا يعتقدون أن ما قالُوه كفرٌ يخرجُهُم من الإسلام، وهو حقيقةً مُخْرِجٌ لهم من الدين. وهذا مصداقُ قولِهِ صلّى اللهُ عليهِ وسلّمَ : “إنَّ العبدَ لَيَتَكَلَّمُ بالكَلِمَةِ لا يَرَى بِهَا بأسًا (أي لا يرى فيها ضررا) يهوِى بها فِى النار سبعين خريفًا” أى مسافةَ سبعين عامًا فى النزول وذلك منتهَى جهنم وهو خاصٌ بالكفار. والحديثُ رواه الترمذىُّ وحَسَّنَهُ، وهذا الحديثُ دليلٌ على أنه لا يُشترَطُ فى الوقوعِ فى الكفر معرفةُ الحكمِ ولا انشراحُ الصدرِ ولا اعتقادُ معنى اللفظِ الكفري. معنى ذلك أن العبد يَقَعُ فى الكفر بمجردِ النطقِ باللفظِ الكفرىِّ، ولو كان لا يعتقدُ معنى ذلك الكلام فى قلبه، بل مُجَرَّدُ أَن يَقُولَهَا بإرادَتِهِ يكون كفرًا ولو كان لا يعتقدُ المعنى، كَمَن يَسُبُّ الله تعالى فإنه لا يُشترط لوقوعه فى الكفر اعتقادُ هذا المعنى الكفرىّ، ولا يُشترط أن ينشَرِحَ صدرُهُ للكفر. الإنسانُ الذى يقتُلُ شخصًا بغير حق لا يسألُهُ القاضى هل كنتَ منشرحَ الصدر لما قتلتَه أم لا، ليحكُم عليه بالحكم المناسب. وكذلك الذى يسرِقُ لا يسألُه القاضى حتى يُصدِرَ عليه الحكمَ هل كنتَ منشرحَ الصدر لما سرقتَ أم لا؛ فإذا كان الأمرُ كذلك فى القتل والسرقة اللذَينِ هما أخفُ بكثير من ذنب الكفر، فكيف بالنسبة للكفر؟!!.

وكذلك لا يُشترط ليُحكَم على شخصٍ بالكفر أن يكون نطق بالكفر فى حال الرِضَى أى فى غيرِ حال الغضب. يَعنِى أنَّ مَنْ نَطَقَ بكلمةِ الكفر فى حال الرضى أو فى حال الغضب فهو كافر إلا إذا كان غَضَبًا شديدًا جدًا بحيثُ غاب عقلُه بسَبـَبِهِ فما عاد يَعِي ماذا يقول، فَقَدَ التمييز، فعند ذلك لا يكتب عليه اللفظ الكفرىّ. أما فى غير ذلك من أحوال الغضب فإنه يُكتب عليه مهما بلغ به الغضب طالما هو يَتَكلَّمُ بإرادته.

والردةُ ثلاثةُ أقسامٍ كما قسَّمها النووىُّ وغيرُه من شافعيةٍ وحنفيةٍ وغيرِهِم: اعتقاداتٌ بالقلب وأفعالٌ بالجوارح وأقوالٌ باللسان، وكلُّ قسمٍ من هذه الأقسام الثلاثة يُخرِجُ صاحبَهُ من الإسلام من غير اشتراطِ أن يجتمعَ معَهُ قسمٌ ءاخر.

القسمُ الأول من أقسامِ الردة هو الردةُ الاعتقادية المتعلقةُ بالقلب، مثلُ اعتقادِ أنَّ الله جسمٌ أو أنَّ الله يسكن في السماء أو يجلسُ على العرش. فمن كان هذا اعتقاده لا يكون من المسلمين ويجب عليه أن يعتقد أن الله لا يشبه شيئا وأنه سبحانه موجود بلا مكان ويتشهد ليصير من المسلمين.

والقسمُ الثانِى من أقسامِ الردة هو الردةُ الفعليةُ المتعلقةُ بالجوارحِ، مثلُ السجودِ لصنمٍ. فمن سجدَ لصنم من غير إكراه كَفَّرْنَاهُ من غير نظرٍ إلى نيتـِهِ، وكذلك من سجدَ للشمسِ، أو القمر، أو الشيطان، أو النار، أو نحوِ ذلك من الأشياء التى لا يَسْجُدُ لها إلا الكفار. وأما من سجد لإنسانٍ فَفِى الأمرِ تَفصِيل. إنْ سجدَ له بنيةِ العبادة فهو كُفر، وإنْ سَجَدَ له تحيةً أو نحوَ ذلك فلا يَكْفُر. وقد كان هذا الأمرُ أى السجودُ لمسلمٍ تحيةً واحترامًا جائزًا فى الشرائع السابقة، كما سَجَدَ الملائكةُ لآدم، ثم حُرِّمَ هذا الأمر فى الشريعةِ المحمديةِ، فلا يجوزُ أن يسجدَ شخصٌ لشخصٍ ءاخر ولو كان على وجه التحية والاحترام. ومِنَ الكفر الفعلىّ أيضًا إلقاءُ المصحف فى القاذورات ولو قال الشخصُ الذى فعل هذا الأمر: أنا ما كنت أقصِدُ الإهانة، لأن مجردَ فعلِه إهانةٌ للمصحف. أمّا إن كان لا يعرف أنَّ الكتاب الذى يرميه هو كتابٌ مُعَظَّم كأن كان لا يعرف أنه المصحف الشريف ثم رماه فى القاذورة فلا يكفر. والقاعدةُ فى هذا الأمر أنّ كلَّ فعلٍ أجمع المسلمون أنه لا يصدُرُ إلا من كافر فمَن فَعَلَهُ عامدًا مختارًا فهو كافر. والعياذ بالله تعالى.

والقسمُ الثالثُ الأقوالُ وهى كثيرةٌ جدًا لا تنحصر. و أكثر الكفريات إنما هى كفرياتٌ باللّسان، وهذا مصداقُ حديثِ رسولِ اللهِ صلّى اللهُ عليهِ وسلّمَ: “أكثرُ خطايَا ابنِ ءَادم مِنْ لسانِهِ”، رواه الطبرانىُّ. ومن الكفريات القولية سبُ الله أو سبُ نبيٍ من الأنبياء أو ملَكٍ من الملائكة أو سبُ دينِ الإسلام والعياذ بالله تعالى.

والقاعِدَةُ أَنَّ كلَّ اعتقادٍ بالقلب أو فعلٍ بالجوارح أو قولٍ باللسان فيه استخفافٌ بالله فهو كفر. وكذا ما فيه استخفافٌ بكُتُبِ الله الْمُنَزَّلَة، أو بأنبيائِهِ، أو بالملائكة، أو بشعائر الدين ومعالِمِ الدين أى الأشياء التى هى عَلَمٌ على أمور الدين أى التى هى مشهورة من أمور الدين، كالأذَان فإنه يقال له عَلَمٌ أو شَعِيرَة، و الحجِ والمساجد وعيدِ الفطر وعيدِ الأضحى والصلاة، كلُّ هذه من معالم الدين وشعائِرِ الدين فالاستخفاف بها كُفرٌ. وكذلك الاستخفافُ بأحكام الشريعة أو بوعد الله أو بوعيده، كلُّ ذلك كُفر سواءٌ عَقَدَ الإنسانُ على ذلك قلبَهُ أو فَعَلَهُ بجوارحِهِ أو نَطَقَ به بلِسَانِهِ. فليَحْذَرِ الإنسانُ مِنْ ذَلِكَ جَهْدَهُ لأن من مات على الكفر فقد خَسِرَ الدنيا والآخرة، أعاذنا الله تعالى من ذلك.

و الإنسان إذا وقع فى الردة بقولِ كُفْرٍ أو فِعْلِ كُفْرٍ أو باعتقادٍ كفرىٍّ مثلًا لا بد له حتى يرجع إلى الإسلام من أن يترُكَ هذا الكفر الذى وقع فيه وينطِقَ بالشهادتين. وهذا معناه أنَّه لا بُدَّ أن يَعرِف أنّ الأمرَ الذى وَقَعَ فيه هو كُفْرٌ. فلو حصلَ مِنَ الشخصِ كُفْرٌ صريح كسب الله ثُمَّ تَشَهَّدَ بعدَ ذلك أَلْفَ مَرَّة مِنْ غَيرِ أَنْ يَعْرِف أَنَّ هذا الأمر هو أمرٌ كفرىٌّ لا تنفَعُهُ كُلُّ هذه المرات التى تشهَّد فيها. وهذا أيضًا معناه أنَّ الشخصَ لا بد أن ينطِقَ بالشهادتين حتى يرجعَ إلى الإسلامِ، فلا يكفى أَنْ يترُكَ العقيدةَ الكفريةَ التى كان عليها حتى يصيرَ مسلمًا من جديد. بل لا بد مع ذلك من أنْ ينطِقَ بالشهادتين للتبرؤ من الكفر. نسأل الله تعالى السلامةَ في الدين وحسنَ الختام وشفاعة النبي صلى الله عليه وسلم. والله أعلم وأحكم.